نحن أولى بعيسى منهم 1
**********************
من موسوعة سلمان القصصية
*************
عمران من عباد الله الصالحين الذين اصطفاهم الله وجعلهم عبادًا خالصين له . وهاهو الآن وقد أصبح شيخًا طاعنًا في السنّ ولم يرزقه الله بذرية . وزوجته " حنّة " عقيم لم تلد .. ولكم دعوا الله تعالى أن يرزقهما الذرية الصالحة.
وذات يومٍ شعرت المرأةُ الصالحة بالحمل يتحرك في أحشائها .
فقالت : ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني انك أنت السميع العليم .
وفرح عمران وزوجته بهذا الحمل الذى نذرته أمه لعبادة الله ولخدمة المعبد .
وكان زكريا عليه السلام قريبا لبيت عمران عليه السلام حيث زوجة عمران أخت زوجة زكريا ففرح البيتان بهذا الخبر السعيد .
وأتم عمران عليه السلام رسالته فى الحياة ، وتوفى قبل أن يرى وجه الطفل الذي رزقه الله، و جاءت ساعةُ المخاض كانت حنّة تعتقد أن الله سيرزقها صبياً ذكراً ، و لكنها فوجئت بأنها أنثى جميلة.
و الآن كيف ستفي بنذرها لله ؟!
قالت و هي تنظر إلى السماء :
ـ ربّ إني وضعتها أنثى . . و ليس الذكر كالأنثى .
وتوجهت بمخاطبة الله تعالى ..
ـ و إني سميتها مريم ، و إني أعيذها بك و ذرّيتها من الشيطان الرجيم .
واسم " مريم " أي العابدة ، أو المنقطعة للعبادة .
(2)
كبرت مريم وترعرعت وأصبحت فى سن التمييز ، و آن لها أن تذهب إلى المعبد لتخدم فيه.
وأراد جميع الكهنة أن يتولى كل منهم كفالتها لأنها ابنة عمران الرجل الصالح و ابنة حنّة المرأة التقية .
واختصموا فيما بينهم من الذى سيكفل مريم ، فاتفقوا أن يذهبوا إلى النهر فيلقون أقلامهم فيه. والقلم الذى يختلف عن بقية الأقلام يكون صاحبه هو الذى يكفلها .
ففعلوا ذلك ، فإذا بالأقلام جميعا تجرى فى اتجاه تيار المياه إلا قلم زكريا عليه السلام فإنه جرى فى الاتجاه الآخر . فعلموا أن زكريا هو المختار من الله لكفالتها ورعايتها والإشراف على تربيتها ..
ويحكى الله ذلك فيقول : " ... وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " آل عمران 44
وفي غرفة صغيرة في أعلى البيت المقدّس عاشت مريم عليها السلام.
لا يدخل إليها أحدٌ سوى زكريا .
كانت مريم تمضي وقتها في المحراب تصلّي لله بخشوع و في كل يوم كانت الحقائق تسطع في روحها ، و الملائكة تطوف حولها تبشرها بأن الله قد اصطفاها و طهرها على نساء العالمين .
وبلغت مريم من العبادة والطهر والنقاء ما بلغت وارتقت وارتقت حتى إن زكريا عليه السلام أصبح يرى أمورًا عجيبة لم يألفها فقد كان يحمل إليها طعامها وشرابها ، فيجد عندها طعاما وشرابا كثيرا لم يقدمه لها ، وفاكهة الصيف وهم فى الشتاء وفاكهة الشتاء وهم فى الصيف ! وألوانًا من الطعام والشراب والفاكهة ليست موجودة فى فلسطين كلها .
فتعجب زكريا و قال : من أين لك هذا ؟!
قالت مريم : هو من عند الله ، إن الله يرزق بغير حساب .
(3)
امتلأت نفس زكريا بالإيمان ، وتذكر مشكلته الأساسية وأنه حتى الآن لم يرزق بذرية ، فدعا ربّه بخشوع عظيم قائلا:
ـ ربّ هب لي من لدنك ذرّية طيبة .
فجأة غمر نور سماوي المحراب ، و سمع زكريا ملاكًا يناديه :
ـ إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى ، لم نجعل له من قبل سميا .
و تحققت أمنية زكريا ، كان يتمنى ولداً مثل مريم في الطهارة والصدق والإيمان . و لكنه قال :
كيف يكون لي ولد وامرأتي عقيم ، وقد بلغتُ من الكبر عتيًا .
قال الملاك : كذلك قال ربّ هو علي هيّن .
قال زكريا : و كيف أعرف أن الله قد رزقني يحيى ؟
قال الملاك : إن علامة ذلك أن تفقد قدرتك على الكلام ثلاثة أيام لا تستطيع التخاطب مع الآخرين إلا بالإشارة والرموز والإيحاء .
وفعلا شعر زكريا بأن لسانه تقيل ، لا يستطيع القدرة على الكلام أبداً .
و خرج زكريا على قومه من المحراب وظل يشير إلى قومه بيده آمرًا إياهم أن يسبحوا الله ويسجدوا له ليل نهار .
ثلاث ليالٍ تمرّ و زكريا ما يزال عاجزًا عن الكلام ، و في اليوم الرابع قال لزوجته الصالحة " اليصابات " :
ـ لقد بشرني الله بولد اسمه يحيى .
قالت المرأة الصالحة :
ـ " يحيى " ياله من اسم عجيب !! ثم كيف لي أن ألد و أنا عقيم!
قال زكريا : إن الله على كل شيئ قدير . .
(4)
طهر الله هذه الذرية وجعلها مباركة ..
إنها آيات ومعجزات من الله الواحد الأحد ..
* ميلاد مريم من أبوين شيخين كبيرين .
* ميلاد يحيى من سيدة عاقر وشيخ كبير .
* الطعام والشراب الذى كان يراه زكريا عند مريم من غير سبب.
وكانت كل هذه مقدمة لشئ عظيم وعظيم جدًا ..
* حيث كانت الكتب السابقة تبشر بميلاد مولود بغير أب ، وكان بنو إسرائيل يتحدثون عن ذلك ويصفون كيف أنه اقترب زمان ميلاد مولود من عذراء طاهرة ..
ويالا مريم فى عذريتها وطهارتها وتعبدها فى خلوتها ..
وبينما هى في خلوتها تتعبد، بقلبها وكيانها وروحها الشفافة الطاهرة ، إذ امتلأت غرفتها بالنور ، و في قلب هالة النور رأت رجلاً .
ذعرت مريم خافت قالت :
ـ إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .
قال الشاب : لا تخافي يا مريم " انما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً " .
قالت مريم و هي تطرق حياءً :
ـ كيف يكون لي طفل و لم اتزوّج بعد ؟!
كانت مريم معجزة و ها هي تصبح أمّا لمعجزة كبرى سوف تنجب و هي ما تزال عذراء !
قال الملاك :
ـ كذلك يا مريم قال ربّك : هو عليّ هيّن ، و لنجعله آية للناس و رحمة منّا ، و كان أمراً مقضياً .
و تقدم الملاك من مريم لينفخ في قميصها ، و شعرت مريم إن روحاً عظيمة نفّاذة تنفذ في أعماقها .
و غاب الملاك ، و أدركت مريم انّها مقبلة على أيام عصيبة ، إنها تتحمّل مسؤولية كبرى .
إنها تحمل في أحشائها روح الله و كلمته ، و لكنها كانت تشعر بالقلق من يصدّق حملها المبارك ، و كيف يصدّق الناس أن طفلاً يولد دون أب ؟!
ودخل عليها نبى الله زكريا عليه السلام ولمح أمارات الحمل عليها فتعجب من طهرها وعفافها وحملها وهاب أن يكلمها صراحة وهو يرى عبادتها ونقاءها فقال لها :
يا مريم : أيكون زرع بلا حب ؟!
فقالت : فمن زرع الزرع الأول ؟!
يا مريم : أيكون فرع بلا أصل ؟!
قالت : فمن خلق الخلق الأول ؟!
(5)
حان وقت المخاض فخرجت مريم بعيدة عن المعبد ..
تتوارى من قومها ، حتى ألجأها المخاض إلى جذع نخلة .. عندها قالت :
ـ يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً !
كانت مريم تفكر مَنْ يصدّق أنها تنجب طفلاً دون أب !!
و سمعت مريم الجنين يخاطبها :
ـ لا تحزني يا أمي . . الله هيّأ لك جدول ماء فاشربي منه ، وهزّي جذع النخلة سوف تنثر عليك رطباً فكلي و اشربي و قرّي عينا .
شعرت مريم بالهدوء يترقرق في قلبها مثل مياه الجدول ، و لكنها قالت بقلق :
ـ والناس يا بني . . ماذا أقول للناس يا روح الله ؟
قولي لهم : إنى نذرت لله صوماً فلن أكلّم اليوم إنسانًا .
ثم حملته عائدة إلى قومها !
(6)
و انحدرت مريم من التلال إلى المعبد ، و شاهد الناس منظراً عجيباً! إن مريم تحمل طفلاً ! مريم ابنة عمران تحمل طفلاً !! مريم بنت حنّة لم تتزوج بعد و لكنها تحمل طفلاً !
ـ ماذا ؟ !! كيف ؟ أين هي ؟!
ـ تلك مريم إنها تتجه إلى غرفتها في المعبد .
و انتشر الخبر المثير في كل مكان ، و أصبح حديثاً للجميع . وتجمعوا فى مشهد مهيب ..
وكان اليهود فى ذلك الوقت قد شغلتهم الدنيا وشغلهم الطمع وجمع المال وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالماديات ، وابتعدوا عن تعاليم الله التى أوصاها الله لنبيهم موسى عليه السلام .
من أجل هذا أراد الله سبحانه أن يوقظهم من غفلتهم ،
قال أحدهم مخاطباً مريم :
ـ لقد جئت شيئاً فريّا .
و قال آخر :
ـ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ و ما كانت أمّك بغيّاً .
وقفت مريم تنظر إلى قومها و قد تألق وجهها بنور سماوي لم تقل شيئاً أشارت إلى الطفل .
تعجب الرجال قالوا :
ـ كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟!
كيف نكلم طفلاً ، و هل يستطيع طفل في المهد أن يتحدّث ؟!
و في هذه اللحظة و فيما كان الرجال يحدّقون في الطفل متسائلين ،
حدثت المعجزة !
لقد جعل الله آداة الجريمة وهو الطفل الذى تحمله مريم .. جعله الله دليل البراءة فأنطقه بقدرة من يقول للشئ كن فيكون ..
إذ قال عيسى بصوت مسموع يسمعه الحاضرون جميعا ..
ـ إني عبد الله !
هل قال إنى أنا الله ؟! لا
هل قال إنى ابن الله ؟! لا
هل قال إنى ثالث ثلاثة ؟! لا
إنما قال :
ـ إني عبد الله !
آتاني الكتاب و جعلني نبياً . .
وجعلني مباركاً أينما كنت .
و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيّاً . .
وأوصاني ببرّ والدتي و لم يجعلني جبّاراً شقياً .
و السلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم ابعث حيّاً .
و إمام هذا المشهد المثير . .
آمن المؤمنون يومها أن هذا هو المولود التى بشرت به الكتب السابقة بأنه يأتى إليهم مولود من عذراء بغير أب .
وعلى رأس هؤلاء جميعا سجد زكريا لله مصدّقاً بعيسى بن مريم، روح الله و كلمته ألقاها الى مريم !
لكن كثيرا من اليهود ظلوا على جحودهم رغم هذه المعجزة البينة وهو حديث عيسى فى المهد صبيا .
ويخلد الله هذه القصة فى أكثر من سورة فى القرآن الكريم ..
فيقول تعالى فى سورة مريم ..
واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا . فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويا . قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا . قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا . قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا . قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .
سورة مريم 16 : 21
من موسوعة سلمان القصصية
*************